كنت اتابع أخبار السكر منذ خمس سنوات، وكل ما سمعت بخبر تابعته حتى تطيب نفسي. فكما تعلمون كل منا يظن أنه سيجد ما لم يجده غيره خاصة في بداية اكتشافه السكر. وأنا لست استثناءا. بل أنني كتبت إلى أطباء مختلفين من العالم في بريطانيا واليابان والأرجنتين، وفلوريدا في الولايات المتحدة، وفي فيينا بالنمسا. وكلهم والحق يقال كانوا متفهمين لهفتي وقلقي، وكانوا صادقي النصيحة بكل أمانة (ربما تتاح لي فرصة أخرى أحدثكم فيها عن هذه الأحداث). الحالة الوحيدة التي لا زلت اتابعها وانتظر نتائجها على أحر من الجمر هي حالة الطبيبة دنيس فوستمان.

دنيس فوستمان، الدكتورة الباحثة في جامعة هارفارد برتبة استاذ مشارك في الطب، منهمكة الآن (في لحظة كتابتي هذه الكلمات) في معملها في مستشفى بوسطن العام في تجارب بشرية لشفاء (أقول لشفاء) السكري من النوع الأول. ولكي استبق الأحداث، هي لا تستخدم الخلايا الجذعية ولا زراعة البنكرياس. وبدأت فوستمان منذ عام 2007 على جمع المتطوعين، وأجرت تجارب المرحلة الأولى وهي تستعد للانتقال إلى المرحلة الثانية من التجارب البشرية. وعادة حسب الأعراف البحثية المجازة، فإنها تحتاج إلى ثلاث مراحل. والانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية سيستغرق (حسب قولها) من 12 إلى 18 شهرا. والسبب في طول المدة هذه هي متطلبات وشروط هيئة الطب الأمريكية المشرفة على مثل هذه البحوث، لكن السبب الأهم الآخر هو توفر المال (25 مليون دولار كما تقول)، لأن كل بحوثها هذه جاءت من التمويل العام وليس الحكومي أو التجاري، فشركات الصيدلة وشركات الأدوية غير مهتمة ببحثها وتجربتها هذه بالتحديد. وسبب عدم اهتمام هذه الشركات راجع إلى أنها ستستخدم دواءا موجودا منذ مائة عام تقريبا وثبتت فعاليته وسلامته من أية أعراض جانبية إذ تمت تجربته على أكثر من بليون (أقول بليون وليس مليون) إنسان. مثل هذا العدد الهائل من البشر يثبت سلامة العقار إثباتا لا يقبل الجدل!

طبعا كان دخول الدكتورة هذا العالم من البحث عندما صعقت المجتمع الطبي في عام 2001 بأنها قادرة على شفاء فيران التجارب من السكر دون زراعة بنكرياس أو خلايا جذعية، وأن الفيران هذه عاشت حياتها الطبيعية خالية من أعراض السكر، أذ شفيت تماما. كان لمثل هذه التجربة صداها في حقل الطب والسكر على وجه الخصوص. فقد كرر عملها هذا باحثون في مختبرات مختلفة وفي بلدان متعددة وثبتت صحتها. فالبحث العلمي في مثل هذا المجال يتطلب قابلية التكرار لكي تعترف الهيئات الطبية بصحته وصدقيته. وفعلا هذا ما حصل.

طبعا في التسعينيات الميلادية من القرن الماضي احدثت الدكتورة بلبلة كبيرة في الولايات المتحدة لأن الهيئة الطبية المانحة للاعانات المالية للبحوث رفضت تمويل مشاريعها البحثية على السكر، حتى أن جريدة النيويورك تايمز شاركت في تفاصيل القضية، وتعذرت الهيئات الطبية بأمور فنية بحتة. فدعمها أياكوكا (صاحب شركة سيارات كرايزلر) بعشرة ملايين دولار مؤسسا بذلك جمعية أياكوكا لأبحاث السكر كي تستطيع متابعة بحثها، وجاء تبرعه هذا من باب الوفاء لزوجته التي فقدها بسبب مرض السكر، وفعلا كانت نتيجة البحث أن عكست مرض السكر في فيران التجارب وإلى الأبد. جاءت من ثم الهيئات الطبية المانحة وأجازت مشاريعها البحثية لكنها لم توفر لها المال الكافي. فعمدت بمساعدة مؤسسة أياكوكا إلى جمع التبرعات من العامة، وجمعت ما يكفي لإنجاز المرحلة الأولى من التجارب على البشر. وبدأت حملة اختيار المتطوعين في صيف 2007م. وفي 14 مارس 2009 اجرت دنيس فوستمان مقابلة تلفزيونية شرحت فيها تفاصيل عملها من البداية حتى تلك اللحظة (أي قبل اقل من شهر بقليل). وسأحاول نقل جوهر المقابلة حسب المقدرة والوقت. أما من يستطيع قراءة الانجليزية فإليه الرابط التالي (وبإمكانه الاستماع أو حفظ النص المطبوع وقراءته)! الجزء الأول:
[url]http://www.diabetesdaily.com/edelman/2008/09/01/diabetes-cure-trial.pdf[/url]
الجزء الثاني:
[url]http://www.diabetesselfmanagement.com/blog/Flashpoints/A_Faustman_Bargain_Part_2[/url]

وفي المقابلتين شرحت الدكتورة دنيس فوستمان عملها بلغة يفهمها العامة وبمنطق قوي جدا. فهي ترى أن كل التوجهات في علاج السكر لا تستهدف السبب الأول وإنما تتعامل مع نتائجه، سواء كان هذا التعامل من خلال الزراعة أو غيرها. أما هي فتحدد السبب وتستهدفه.

وقد كان شائعا لدى المجتمع الطبي وربما لا زال شائعا أن البنكرياس بعد الإصابة بالسكر لا تفرز شيئا من الانسولين. أما الدكتورة فوستمان فترى أن البنكرياس تفرز باستمرار حتى بعد الإصابة بخمسين سنة، لكن الجهاز المناعي يستهدف ما تفرزه فيقضي عليه، ولهذا فإن علاجها يتعامل مع مسار هذا الاستهداف ويحاول سد المسار الذي يستهدف الـ Islet. وقد حددتها وحددت مسارها، ولديها العقار الآمن االذي يؤدي هذا الدور، وقد نجحت مع الفيران، وتعتقد أنها ستنجح مع الانسان. وتجاربها البشرية ابتدأت.

تفاصيل هذا الانجاز سأحال سردها أثناء هذه الأجازة بإذن الله. وادعو من يجيد الانجليزية أن يساهم في الترجمة.